يشرح سميى بيهاريتش وأمينة زوليتيتش أنّ مرور ثلاثة عقود على نهاية حرب البوسنة لم يُضعف حساسية الذاكرة تجاه العنف الجماعي، لكنّه كشف تناقضًا لافتًا: باحثون يحلّلون الإبادة يوميًا يختارون الصمت حين يتعلّق الأمر بغزة.

 

يستعيد التقرير الذي نشرته شبكة الجزيرة جذور المقارنة بين ما عاشه البوشناق خلال حرب 1992-1995، خصوصًا مجزرة سريبرينيتسا عام 1995، وبين ما يشهده الفلسطينيون اليوم. ومع أنّ آلاف البوسنيين خرجوا إلى الشوارع متضامنين مع غزة، يبرز صمت قطاع كبير من الباحثين المتخصصين في دراسات الإبادة، وهو صمت يرى الكاتبان أنّه يضعف المجال الأكاديمي نفسه.

 

أصوات لا تخشى المجاهرة: ضميرٌ يقظ

 

يشير المقال إلى أنّ عددًا من المثقفين البوسنيين رفض الصمت، من بينهم أساتذة مثل ليلى كريشيفلياكوفيتش، سانِيلا تشيكيش باسيك، جورانا مليناريفيتش، وجاسنا فيتاحوفيتش، بالإضافة إلى سانِيلا كابتانوفيتش. شارك هؤلاء في التظاهرات، وأكدوا أنّ المسؤولية الأخلاقية تُلزم الأكاديميين بقول الحقيقة.

 

تنتقد بلمَا بولجوباشيتش، أستاذة العلوم السياسية في جامعة سراييفو، ازدواجية المعايير لدى قادة أوروبيين يحيّون ذكرى سريبرينيتسا بينما يبرّرون حرب إسرائيل على غزة باعتبارها "دفاعًا عن النفس". وترى أنّ هذا الخطاب يكشف براجماتية باردة تتجاهل العدالة الإنسانية.

 

وتوضح الباحثة إدينا بيتشيريفيتش أنّ الإبادة في غزة تعكس آليات عرفتها البوسنة: نزع الإنسانية، تعبئة أيديولوجية، وتواطؤ دولي. بينما يشير أحمد عليباسيش إلى أنّ مقارنة سريبرينيتسا وغزة تتيح فهم ديناميات العنف السياسي المعاصر. كما تربط نِدجارا أحمداشيفيتش بين حصار سراييفو وواقع غزة من خلال شهادات الناجين

 

تقدّم هذه الأصوات ما يسميه إدوارد سعيد "كلام الحقيقة في وجه القوة"، وتُظهر أنّ الصمت ليس حيادًا بل خيارًا سياسيًا.

 

صمت يثير التساؤلات: حسابات السلطة والتمويل

 

يكشف المقال أنّ مؤسسات بحثية بارزة — منها معهد أبحاث الجرائم ضد الإنسانية في جامعة سراييفو، وبعض الأقسام القانونية والبحثية — تتجنب الحديث عن غزة. ورغم أنّ جمعيات دولية كبرى مثل "الرابطة الدولية لدارسي الإبادة" صنّفت ما يحدث في غزة كإبادة، لم يُصدر كثير من المتخصصين في البوسنة موقفًا واضحًا.

 

ويرصد المقال حالة لافتة تتعلّق بإمير سولياجيتش، مدير مركز ذكرى سريبرينيتسا وناجي الإبادة، الذي قال إنّ الصراع في غزة "ليس معركتنا". هذا الموقف أثار انتقادات حادة، خصوصًا أنّه قبل عام كتب مقالًا يدعو فيه الأوكرانيين إلى عدم الاستسلام.

 

ويذكر المقال أنّ المركز الذي يديره أنتج دراسات عن الإبادة في أوكرانيا وسوريا وجنوب السودان وإثيوبيا بتمويل بريطاني، بينما تجاهل غزة إلى أن شارفت هدنة على التحقق، ما دفع بعض المراقبين لوصف هذا السلوك بالانتهازية.

 

ويشير المقال إلى أنّ بعض الباحثين يخشون فقدان التمويل الخارجي أو تعريض شراكاتهم الأكاديمية للخطر، خاصة مع السفارات الغربية والداعمين الأوروبيين، وهو ما يفسّر جانبًا من الصمت لكنه لا يبرّره — خصوصًا حين يأتي من أكاديميين يعملون في مؤسسات ممولة بالمال العام.

 

أخلاقيات المعرفة.. ومحنة الصمت

 

يقول المقال، إنّ تجاهل جرائم الحرب في غزة يخلق "تسلسلًا هرميًا للضحايا" ويحوّل دراسات الإبادة إلى أداة سياسية بدلاً من كونها مجالًا للبحث العلمي المستقل. حين يختار الباحث أن يتكلم عن إبادة دون أخرى، يُفتح الباب إلى انتقاء سياسي يتعارض مع نزاهة المجال كله.

 

ويستدعي الكاتبان رؤية إدوارد سعيد لدور المفكر: رفض الراحة، مواجهة التشويه، والوقوف مع المظلومين دون حسابات. ويؤكدان أنّ الصمت عن غزة يُخضع الذاكرة البوسنية للاستخدام السياسي، ويحوّل دراسات الإبادة إلى مساحة مساومة لا إلى مساحة عدالة.

 

ويشير المقال إلى أنّ الوعي الشعبي في البوسنة — المتشكل من تجارب الحصار والمجازر — لا يفصل بين سريبرينيتسا وغزة، بل يرى أنّ الإبادة تتكرر بأشكال مختلفة. لذلك، فإنّ استعادة أخلاقيات المقاومة الأكاديمية تعني إعادة ربط الذاكرة المحلية بالسياق العالمي لمعركة العدالة.


يدعو الكاتبان إلى مواجهة الصمت الذي يطغى على كثير من المؤسسات الأكاديمية في البوسنة، وإلى إعادة تعريف مسؤولية الباحث عن الإبادة الجماعية. فالقضية، كما يريان، لا تتعلق بغزة وحدها، بل بمستقبل هذا الحقل العلمي وبقدرته على صون الحقيقة بعيدًا عن الحسابات السياسية.

 

https://www.aljazeera.com/opinions/2025/11/17/why-many-bosnian-genocide-scholars-remain-silent-on-gaza